القائمة الرئيسية

الصفحات



دلالة  الاعتبــــــار في القرآن الكريم



دلالة الاعتبــــــار في القرآن الكريم

العبرة والاعتبار سائد في كل القرآن الكريم سواء في قصصه وأقاصيصه أم في توجيهه وتحذيره المباشر أم في ووعده ووعيده وإنذاره وتبشيره 

      أولى القرآن العظيم عناية بالغة بالهداية والإرشاد, ووظّف السبل والوسائل والأساليب من أجل هذا الهدف الأسمى, ومن هذه الوسائل البعد الوعظي والاعتباري السائد في جميع آياته تعالى سواء في قصصه وأقاصيصه أم في توجيهه وتحذيره المباشر أم في ووعده ووعيده وإنذاره وتبشيره , من خلال آياته الكريمة , وسوف نتتبع دلالات مفردة الاعتبار في اللغة والاصطلاح ومن ثَمّ بيان دلالاتها في الاستعمال القرآني :

أولا : الاعتبار عند أهل اللغة    

      ورد في المفردات حول مادة "عبر": أصل العبر تجاوز من حال الى حال ، أما العبور فيختص بتجاوز الماء, ومنه عبر النهر, واشتق منه عبر العين للدمع, وقيل: عابر سبيل, وجاء في القرآن] إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ[[[1]], والاعتبار والعبرة بالحالة التي يُتوصل بها من معرفة المشاهَد الى ما ليس بمشاهَد ، قال تعالى: ] إِنَّ فِي ذَلِكَ لعِبْرَةً[[[2]], والتعبير مختص بتفسير الرؤيا ] إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [[[3]]وهو أخص من التأويل يقال فيه وفي غيره[[4]] .

       وفي لسان العرب: عبر الكتاب يعبره عبرا : تدبره في نفسه ولم يرفع صوته بقراءته, والعابر: الذي ينظر في الكتاب فيعبره أي يعتبر بعضه ببعض حتى يقع فهمه عليه, وقيل: أخذ هذا كله من العبر، وهو جانب النهر.

      والمعبر ما عبر به النهر من فلك أو قنطرة أو غيره، والمعتبر: المستدل بالشئ على الشئ, وعبّر عما في نفسه: أعرب وبيّن، واللسان يعبّر عما في الضمير، والعبرة  العجب, واعتبر منه: تعجّب، وفي القرآن الكريم ]فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[[[5]] أي تدبروا وانظروا فيما نزل بقريظة والنضير، فقايسوا فعالهم واتعظوا بالعذاب الذي نزل بهم . والعبر: جمع عبرة وهي الاعتبار بما مضى، وهي كالموعظة مما يتعظ به الإنسان ويعمل به ويعتبر ليستدل به على غيره، وقيل: العبرة الاسم من الاعتبار[[6]].

      وجاء في المعجم الوسيط: اعتبر الشئ اختبره وامتحنه, واعتبر به اتعظ, واعتبر منه تعجب، والعبرة: الاتعاظ والاعتبار بما مضى، والعبرة : العجب جمعها عبر ، واستعبر فلان: جرت دمعته، وعبر النهر عبرا وعبورا: قطعه من شاطئ الى شاطئ, وكذلك الطريق: قطعه من جانب الى جانب.
      والاعتبار: الفرض والتقدير, يقال أمر اعتباري مبني على الفرض ، والعبارة : الكلام الذي يبين ما في النفس من معان[[7]] .

     بعد هذا البيان يتضح لنا ان أهم دلالات هذه المفردة, وأقربها للهدف القرآني, هو ما يحقق معنى الامتحان, وما يفيد معنى التأثر والاتعاظ بما جرى على الأقوام من العذاب, وهذا المعنى هو المقصود بالبحث .

ثانيا :الاعتبار في الاصطلاح

      في مستهل سورة الحشر المباركة, في ذيل الآية الثانية منها, ورد اللفظ (اعتبروا) بصيغة فعل الأمر, ولم يتكرر بهذه الصيغة في كل القرآن:
] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[ .
    حيث ذُكر أنها نزلت بشأن اليهود القاطنين في المدينة المنورة, فعندما (نزل النبي(ص) بالمدينة عاقده بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له, ثم نقضوا العهد وأرادوا أن يطرحوه حجرا حين مضى النبي(ص) اليهم...ومالوا للمشركين على النبى(ص) فأجلاهم عن ديارهم ومنازلهم...)[[8]]، 

قال صاحب الكشاف: (فاعتبروا بما دبر الله ويسّر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال، وقيل: وعد رسول الله(ص) المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما قال)[[9]].      
       وجاء في روح المعاني:( فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سبباً لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين ، إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه)[[10]] .
    
      وبيّن صاحب نظم الدرر ما تحمل هذه المفردة من دلالة بقوله: ( فاعتبروا : أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم ، إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً من الخلق ولا تعتمدوا على غير الله... فمن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره )[[11]].

     بهذا البيان نفهم ان الاعتبار جاء بخصوص هذه القصة حصرا ، الا ان العبرة دوما بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو المعروف , ولولا ذلك لانتفت الفائدة من القرآن الكريم، يقوّي هذا المعنى ما جاء عن الإمام الباقر(ع) (( ...إن القرآن حي لا يموت والآية حية لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين ))[[12]] لذا فمن الطبيعي ان يجري الاعتبار في مواطن أخرى من الآي الكريم وإن لم يذكر بلفظه ، فقد ورد في نهج البلاغة:
(( واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا ان تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حالَيهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم))[[13]] .
     وورد أيضا بشأن الاعتبار: ((فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم))[[14]].

      وفي مصباح الشريعة قال الإمام الصادق(ع) ) :(المعتبر في الدنيا عيشه فيها كعيش النائم يراها ولا يمسها, ويزيد عن قلبه ونفسه باستقباحه معاملات المغرورين بها ما تورثه الحساب والعقاب, ويتبدل بها ما تقربه رضا الله وعفوه, ويغسل بماء زوالها مواضع دعوتها إليه وتزين نفسها إليه, فالعبرة تورث صاحبها ثلاثة أشياء: العلم بما يعمل, والعمل بما يعلم, والعلم بما لا يعلم, والعبرة أصلها أول يخشى آخره، وآخر قد تحقق الزهد في أوله, ولا يصح الاعتبار إلا لأهل الصفاء والبصيرة...فمن فتح الله عين قلبه وبصيرته بالاعتبار فقد اعطاه منزله رفيعه وملكا عظيما))[[15]].

      وفي نهج البلاغة أيضا: (( فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد, وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة, عن كبر ساعة واحدة))[[16]].

       إذن, وعلى ضوء ما ذكرنا, ومن خلال إلقاء نظرة شمولية على روايات المعصومين(ع) وأقوال المفسرين، يمكن استنتاج دلالة الاعتبار, على المستوى الاجتماعي العام , بأنها:

      ما يمكن استخلاصه من تاريخ الأمم وحوادث الغابرين، وسَنّه بمثابة قوانين حياتية يسير على وفق هداها المجتمع ، وذلك بتجنب ما يحقق الأسباب لفناء الحضارات وموتها ، وتبني ما يحقق الأسباب لانبعاث الحضارات وانتعاشها .




ثالثا:الاعتبار والقياس الشرعي 

      هنالك مسألة مهمة وقع اللبس فيها عند المفسرين من بعض المذاهب الأخرى, فقد جاء في تفاسيرهم أن آية الاعتبار هذه تعدّ دليلا على جواز العمل بالقياس والمشابهة بين المسائل الفقهية من أجل استنباط الأحكام الشرعية, نلمس ذلك واضحا في قول الآلوسي: 
    (واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره وذلك متحقق في القياس إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في حكم الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية)[[17]]، وأثبت الرازي حجية القياس حين قال:( اِعلم انا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب «المحصول من أصول الفقه» على أن القياس حجة)[[18]] . 
 
      أما البقاعي فقد أوجب العمل بالقياس في قوله:( وقد احتج بالآية مثبتو القياس فإنه مجاوزة من الأصل إلى الفرع، والمجاوزة اعتبار، وهو مأمور به في هذه الآية فهو واجب )[[19]] .

      لكن رأي مفسري الإمامية كان مغايرا, فقد جاء في التبيان: (ومن استدل بهذه الآية على صحة القياس في الشريعة فقد أبعد ؛ لان الاعتبار ليس من القياس في شئ، وإنما معناه الاتعاظ على ما بيناه, ولا يليق بهذا الموضع قياس في الشرع؛ لانه لو قال بعد قوله ]يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ[ فقيسوا الأرز على الحنطة، لما كان كلاما صحيحا ولا يليق بما تقدم ، وإنما يليق بما تقدم الاتعاظ والانزجار عن مثل أفعال القوم من الكفر بالله)[[20]].

      كما أنكر الطبرسي هذه المسألة حين قال : 
(ولا دليل في الآية على صحة القياس في الشريعة لأن الاعتبار ليس من القياس في شئ...ولأنه لا سبيل لأهل القياس الى العلم بالترجيح ولا يعلم كل من الفريقين علة الأصل للآخر فإن علة الربا عند أحدهما الكيل والوزن والجنس وعند الآخر الطعم والجنس وفي الدراهم والدنانير لأنهما جنس الأثمان)[[21]] , فإن المقصود بالاعتبار(هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل كمقارنة حال الكفار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير...وهذه الجملة لا ترتبط أبدا بالقياسات الظنية التي يستفيد منها البعض في استنباط الأحكام الدينية)[[22]] .

رابعا : الاعتبار في الاستعمال القرآني

      وردت مادة "ع ب ر" في القرآن الكريم بصيغ متعددة تحمل دلالات متنوعة كما يأتي:
1)    اعتبروا : جاءت هذه الكلمة فعلا أمرا مرة واحدة في سورة "الحشر" المباركة في ذيل الآية الثانية منها في قوله تعالى  ] فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [ بمعنى اتعظوا بما جرى على اليهود  .

2)    عبرة : هذه الصيغة وردت اسما في ستة مواضع من القرآن الكريم ، هي :
]يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ[آل عمران{13}
]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ[ يوسف{111} 
]وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [النحل{66} والمؤمنون{21}
]يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ[ النور{44} 
]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى[ النازعات{26}

3)   عابري : جاءت اسم فاعل للجمع مرة واحدة في سورة النساء المباركة في الآية الثالثة والأربعين منها ] وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ[  بمعنى مجتازي الطريق في حالة السفر .

4)    تعبرون: جاءت فعلا مضارعا للجمع مرة واحدة في سورة "يوسف" المباركة في الآية الثالثة والأربعين منها ]  يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ[  بمعنى بينوا لي تعبير هذه الرؤيا .

      بهذا التتبع يتبين أن هذا الأصل اللغوي قد ورد اسما وفعلا مضارعا وأمرا في تسعة مواضع من القرآن الكريم, بمعان متنوعة, ومداليل مختلفة, الغالب فيها البعد الوعظي والإرشادي.

الدكتورة نهضة الشريفي 

الهوامش :
(1)   سورة النساء : 43
(2)   سورة آل عمران : 13
(3)   سورة يوسف : 43
(4)   سورة الحشر : 3
(5)   المفردات ، كتاب العين ، مادة عبر : 323
(6)   لسان العرب ، فصل العين المهملة: 4/529
(7)   المعجم الوسيط : 580
(8)   التبيان , الشيخ الطوسي : 9/544
(9)   الكشاف , الزمخشري : 7/23
(10)                        روح المعاني , الآلوسي : 20/409
(11)                        نظم الدرر , البقاعي : 8/429
(12)                        تفسير العياشي , محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي: 2/203
(13)                        نهج البلاغة : 221 , الخطبة القاصعة (193)
(14)                        م . ن  : 216
(15)                        مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق : 201 , الباب السابع والتسعون (في العبرة)
(16)                        نهج البلاغة : 213 , الخطبة القاصعة رقم 193
(17)                        روح المعاني  , الآلوسي : 14/ 235
(18)                        مفاتيح الغيب  , الرازي : 15/291
(19)                        نظم الدرر , البقاعي : 8/429
(20)                        التبيان  , الطوسي : 9/560
(21)                        مجمع البيان : 9/ 258
(22)                        الأمثل : 18/126

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات