القائمة الرئيسية

الصفحات

الغزالي يبطل قول الفلاسفة بقِدَم العالم




الغزالي يبطل قول الفلاسفة بقِدَم العالم

الغزالي يبطل قول الفلاسفة بقِدَم العالم

     تعمّق الغزالي في علوم الفلسفة أثناء تدريسه لها في بغداد ، وواصل التفكّر فيها ما يقارب السنة ، حتى انكشف له ما يعتورها من خداع وتلبيس، فاستعرض المسائل التي أظهرت تناقض مذاهب الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" , وردّ عليها بأجمعها , وهي عشرون مسألة.

    سنتناول هنا أنموذجا من المسائل الفلسفية التي تعرّض لها أبو حامد الغزالي, وناقشها وأبطلها، وهي مسألة في إبطال قول الفلاسفة بقِدم العالَم, أو أزلية العالَم:   

(1)          مذهب الفلاسفة وأدلتهم :

     اختلف الفلاسفة في قِدم العالم، فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له ومسوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان. وحكي عن أفلاطون أنه قال: العالم مكون ومحدث.

     ثم منهم من أوّل كلامه وأبى أن يكون حدث العالم معتقداً له، وذهب جالينوس في آخر عمره في الكتاب الذي سماه " ما يعتقده جالينوس رأياً " إلى التوقف في هذه المسألة، وأنه لا يدري العالم قديم أو محدث.

    وربما دل على أنه لا يمكن أن يعرف وأن ذلك ليس لقصور فيه بل لاستعصاء هذه المسألة في نفسها على العقول ولكن هذا كالشاذ في مذهبهم وإنما مذهب جميعهم أنه قديم وأنه بالجملة لا يتصور أن يصدر حادث من قديم بغير واسطة أصلاً([1]).

      وقد قدّم الفلاسفة أدلتهم على قدم العالم نعرض لها بإجمال :

الدليل الأول : استحالة صدور حادث من قديم

     إذ لو فُرض القديم الذي هو الباري تعالى ولم يصدر عنه العالم مثلاً ، لكان ذلك لعدم وجود مرجح يرجح وجوده ؛ لأن وجوده ممكن إمكاناً صرفاً ؛ فإن حدث العالم بعد ذلك حصل السؤال لماذا تجدد المرجح ؟ ومن الذي أحدثه ؟ ولم حدث الآن وليس من قبل ؟ هل لعجز القديم عن إحداثه قبل حدوثه ؟ أم لتجدد غرضٍ ؟ أم لوجود آلة كانت مفقودة ؟ أم لأنه لم يكن  مريداً لوجوده ثم حدثت الإرادة فافتقرت إلى إرادة أخرى ؟ 

    وهكذا يتسلسل إلى غير نهاية فصدور الحادث من  القديم من غير تغير فيه محال ، وتقدير تغير حال القديم محال فثبت قدم العالم لا محالة([2]) .

الدليل الثاني : دليل الزمان

     فإن الفلاسفة يرون تقدم الله على العالم بأحد أمرين: إما بالذات أو بالزمان. 
    فزعموا أن القائل بأن العالم متأخر عن الله والله متقدم عليه ليس يخلو إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين فإنه بالطبع مع أنه يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له إذ يقال: 
    تحرك الظل لحركة الشخص ولا يقال تحرك الشخص لحركة الظل وإن كانت متساوية.

    فإن أريد بتقدم الباري على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن يكون أحدهما قديماً والآخر حادثاً. وإن أريد به أن الباري متقدم على العالم والزمان لا بالذات بل بالزمان فإذن قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوماً إذ كان العدم سابقاً على الوجود وكان الله سابقاً بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من جهة الأول. 

    فإذن قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض ولأجله يستحيل القول بحدوث الزمان  وإذا وجب قدم الزمان وهو عبارة عن قدر الحركة وجب قدم الحركة ووجب قدم المتحرك الذي يدوم الزمان بدوام حركته([3]) .

     هذه رؤية الفلاسفة في مسألة قدم الزمان، ولهم فيه رؤية أخرى هي انه لو فرض العالم حادثاً، ألم يكن الله قادراً أن يخلقه قبل أن خلقه بقدر سنة أو أكثر ؟  وإذا لم يكن جائزاً  إطلاق لفظ السنين قبل حدوث الفلك يقال : 
    إذا قدّرنا أن العالم  قد دار منذ  وجوده  إلى اليوم ألف دورة مثلاً ،  أفلم يكن الله قادراً على خلق عالم قبله ينتهي إلينا بألف ومائة دورة ؟  وعالم ثالث ينتهي بألف ومائتي دورة([4]) ؟  .

الدليل الثالث : دليل الإمكان

    فإن العالم قبل وجوده ممكن ، أي ليس بممتنع ، وهذا الإمكان لا أول له ، حتى لا يوصف العالم قبل ذلك بامتناع الوجود , فيكون إذن إمكانه أزلي ، والموجود بهذا الإمكان وجوده أزلي أيضاً  لأن معنى كونه ممكناً وجوده أنه ليس محالاً وجوده ، ولو صح أن لإمكانه أولاً لكان قبل ذلك غير ممكن وجوده أي محالاً وجوده ولكان الله غير قادر عليه ، وبطلانه بديهي .

الدليل الرابع : مادة الإمكان

    ومفاده: كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه إذ لا يستغني الحادث عن مادة فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصور والأعراض والكيفيات على المواد وما يماثلها ممكنة له ، بمعنى أن كل حادث فهو قبل حدوثه لا يخلوا إما أن يكون ممكن الوجود أو ممتنع الوجود أو واجب الوجود.

   ومحال أن يكون ممتنعاً لأن الممتنع في ذاته لا يوجد قط ومحال أن يكون واجب الوجود لذاته فإن الواجب لذاته لا يعدم قط فدلّ أنه ممكن الوجود بذاته.

    فإذن إمكان الوجود حاصل له قبل وجوده وإمكان الوجود وصف إضافي لا قوام له بنفسه فلا بد له من محل يضاف إليه ولا محل إلا المادة فيضاف إليها كما نقول: هذه المادة قابلة للحرارة والبرودة أو السواد والبياض أو الحركة والسكون([5]) .




(2)          اعتراض الغزالي وإبطال أدلتهم :      

      هذا هو مجمل أدلة الفلاسفة على قِدم العالم , وقد اعترض الغزالي على هذه الأدلة الواحد تلو الآخر، ودحض مدّعى الفلاسفة: 

الاعتراض الأول :

    وهو استحالة صدور حادث من قديم , يعترض عليه الغزالي من وجهين:

الوجه الأول : ان حدوث العالم في الوقت الذي حدث فيه حصل بإرادة قديمة من شأنها تمييز الشيء عن مثله،  وقدم العالم مرفوض ؛ لأن قدمه يؤدي إلى دورات لا متناهية للفلك ، مع أن لهذه الدورات سدساً وربعاً وثلثاً.

الوجه الثاني : لابد من تجويز صدور حادث من قديم ؛ لأن في العالم حوداث لا يمكن إنكارها ، فإن استندت هذه الحوادث إلى حوادث إلى غير نهاية يُستغنى  عن الصانع  وهو محال فوجب استناد  الحوادث إلى طرف ينتهي إلى تسلسلها وهو القديم([6]) .

الاعتراض الثاني :

    وهو الزمان وتقدم الله عليه بالذات او بالزمان , اعترض الغزالي على هذا الدليل برؤيتيه:

    فعلى الرؤية الأولى - بالذات - اعترض بأن تقدير الزمان قبل العالم هو من عمل الوهم ؛ لأن الزمان مخلوق ؛ وعجز الوهم عن تقدير تناهيه كعجزه عن تقدير تناهي الأجسام ؛ فيتوهم أن وراء العالم ملأ أو خلاء .

    واعترض على الرؤية الثانية - بالزمان - بأنها من عمل الوهم أيضاً ، وأقرب طريق لدفعها مقابلة الزمان بالمكان ؛ فكما أنه لا يمكن تقدير خلق الفلك الأعلى في سمكه أكبر مما خلق بذراع أو ذراعين أو ثلاثة ، كذلك لا يمكن تقدير إمكانات زمنية قبل هذا العالم([7]) .

الاعتراض الثالث :

    وهو دليل الإمكان, أي ان العالم قبل وجوده ممكن وليس بممتنع , ويعترض عليه الغزالي بأن العالم ممكن بمعنى انه ممكن الحدوث أزلاً فلا وقت من الأوقات إلاَّ ويتصور إحداثه فيه ، واقتراض وجود لا ينتهي طرفه غير ممكن ؛ لأنه كتقدير العلم أكبر مما هو ، وتقدير خلق آخر فوقه ، وهو غير ممكن ذلك([8]) .

الاعتراض الرابع :

    وهو مادة الإمكان , بأن الإمكان يرجع إلى قضاء العقل ، فهو قضية عقلية ، وحكم عقلي . فالممكن هو الذي إذا قدّر العقل وجوده لم يمتنع . كالسواد مثلاً ، الذي يقدَّر العقل إمكانه قبل وجوده . فان طرأ على جسم يضاف إليه قيل :

    هذا الجسم قبل حلول السواد فيه كان ممكناً أن يسودّ . فالإمكان هنا للجسم . ولكن ما حكم نفس السواد في ذاته ؟ هل هو ممكن ؟ ولا بد من القول بأنه ممكن ، وتعقّل ذلك لا يفتقر إلى وجود شيء يضاف إليه . 
    كذلك القول في نفوس الآدميين فهي حادثة عند الفلاسفة ، وهي قبل حدوثها ممكنة ، دون أن يكون لإمكانها ذات ولا مادة. 

    ثم إن الإمكان لو استدعى الامتناع شيئاً يقال إنه امتناعه . والممتنع لا وجود له لا في ذاته ولا في مادة.

    ولو أجيب بأن الامتناع كالإمكان ، يستدعي موضوعاً يضاف إليه ، وأن السواد في نفسه ممتنع لا ممكن ، وأن النفس قديمة ، وأنه لو سلم حدوثها فهي منطبعة في مادة ، تابعة للمزاج ، فتكون في مادة كما ذهب إليه جالينوس .

    يردّ هذا الجواب بأن الكليات بحسب اعتراف الفلاسفة موجودة في الأذهان لا في الأعيان كاللونية والحيوانية مثلاً . ثم إن العذر بالنفوس باطل أيضاً فليس لإمكانها قبل حدوثها شيء يضاف إليه ، لأن إضافتها إلى المادة بعيدة ، وإلاّ جازت إضافتها إلى الفاعل الذي هي غير منطبعة فيه ، كما تجوز إضافتها إلى المادة التي هي ليست منطبعة فيها بعد([9])  .


الدكتورة نهضة الشريفي


الهوامش:



([1]تهافت الفلاسفة، أبو حامد الغزالي : 90
([2]) مشكلة الصراع  بين الفلسفة والدين : 33
([3]) تهافت الفلاسفة : 110
([4]) مشكلة الصراع : 47
([5]) م . ن : 58
([6]) م . ن : 34
([7]) م . ن : 47
([8]) تهافت الفلاسفة : 118
([9]) ظ تهافت الفلاسفة : 119 ـ 123

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات